الميزان / د. محمد عبد الستار البغدادي
في قاموسِ الدولِ ذاتِ الوعيِ السياديِّ العميق، لا تُصاغُ الحدودُ بقلمِ الإداراتِ الدوليَّة، ولا تُحدَّدُ خارطةُ الكرامةِ الوطنيةِ استنادًا إلى قراراتٍ وُلِدت في زمنِ العزلةِ والإكراهِ السياسيِّ، فالحدودَ ليست خطوطًا صامتةً على خرائطَ باردة، وإنّما امتدادٌ لماضٍ زاخرٍ بالتضحيات، تَخطُّهُ أقدامُ الرجالِ الذين وقفوا على أرضهم، وأقسموا أن لا تُنتزعَ إلّا على أجسادهم، حين نُحدِّث عن وربة وبوبيان وخور عبد الله، فإنّنا لا نذكر جزرًا وممرًّا مائيًّا فحسب، إنّما نُحْيي ذاكرةً متجذِّرة في وجدانِ العراق، بَصَمتِها التاريخي، ورمزيتها السيادية، وارتباطها الوثيق بحقٍّ ما زال حيًّا في ضمير الشعب.
في أقصى جنوب الوطن حيث تُلاقي مياهُ شطِّ العربِ مدخلَ الخليج، تتشكّل المعالمُ التي تُعرِّفُ العراقَ البحريَّ وتمنحه هويته الجيوسياسية، هذه المناطق لم تكن يومًا تفاصيلَ على هامش الدولة؛ إنما كانت وما تزال مفاصلَ وجودٍ استراتيجيّ، ترتبط بالأمنِ القوميِّ كما ترتبط بالأعماق النفسية للمجتمع، تجاهُلُ هذه المواقع أو إحالتُها إلى أرشيف التسويات العابرة، يعني إفراغ مفهوم السيادة من مضمونه وتحويل الذاكرة الوطنية إلى صدى خامد، وإنّ ما تواجهه الدولة اليوم ليس سؤالًا عن حدودٍ جغرافيةٍ فحسب إنما اختبارٌ حقيقيٌّ لقدرتِها على استرداد ما تم تجاوزه باسم الواقعية السياسية، وما سُكت عنه حين كانت السيادة جريحة والإرادة مكبّلة.
اولاً: الجُذورُ التاريخيَّةُ لِلسِّيادةِ العراقيَّة على وَرْبَة وبُوبيان
حين يُعادُ طرحُ مسألةِ الجُزرِ الشماليّةِ في الخليجِ العربي، وتحديدًا وَرْبَة وبُوبيان، فإنّ الإشارةَ لا تأتي تلبيةً لعاطفةٍ آنية، وإنما تنطلق من أساسٍ تاريخيٍّ موثَّق، يُثبته الإرثُ الإداريُّ العثماني، وتؤكده المراسلاتُ البريطانية، وتُعزّزه مواقفُ الدولةِ العراقيّة منذ نشأتها، هذه الجُزر لم تكن يومًا ملحقةً بكيانٍ منفصلٍ عن العراق، ولم تُسجّل لها تبعيةٌ تاريخيّةٌ للكويت، التي لم تكن قد تبلورت بَعدُ كدولةٍ ذاتِ سيادةٍ معترفٍ بها عند بدايات القرن العشرين، فَوربة وبوبيان كانتا في كل الوثائق الجغرافية والإدارية، ضمن الولايةِ السياديةِ للبصرة، ومتصلةً بامتداد العراق البحري الطبيعي نحو مياه الخليج.
في أدقِّ المراحل التاريخيّة، كانت البصرة تُدارُ إداريًّا من قِبَلِ الدولةِ العثمانيّة، وكانت الجُزرُ المتقدّمة في الشمال الغربي من الخليج جزءًا من هذا الامتداد الإداري، لم يرد عن أي مصدر عثماني رسمي أو وثيقة بريطانية ترسيمٌ يُخرج الجزر عن نطاق العراق، والملفت أن الموقف البريطاني، رغم سعيه للعب دور الوسيط بين العراق والكويت في بدايات القرن العشرين، ظلّ غامضًا حيال تبعية الجزر، دون أن يُقدّم توصيفًا قانونيًّا نهائيًّا، هذا الغموض المتعمّد أو غير المتعمَّد فتح المجال لاحقًا لتأويلٍ منحازٍ في لحظات الضعف العراقي وجُيّر ضد الحق الوطني.
لقد سَجّل العراق منذ ثلاثينيات القرن الماضي اعتراضاته الرسمية في وثائق مرسَلة إلى عُصبة الأمم، وأدرج ضمن خرائطه الرسمية الجُزرَ ضمن حدوده الطبيعية، وفي خمسينيّات وستينيّات القرن العشرين، لم تغب المسألة عن الخطاب السيادي، لاسيما مع بداية محاولات الجانب الكويتي تثبيت وجود عسكري على أطراف بُوبيان، آنذاك جاء الردّ العراقي بتعزيز الوجود في ميناء الفاو وأم قصر، ومأسسة الربط بين الممرات البحرية والجزر كجزءٍ من وحدةٍ سياديّةٍ لا تقبلُ التجزئة.
ولم يكن موقف العراق مُجرّد تحفظ سياسي أو احتجاجٍ دبلوماسي إنما ارتقى إلى مستوى التحركات العملياتية، حيث خُطط لتثبيت الحضور العسكري في الممرات والجزر، انطلاقًا من رؤية استراتيجية تعتبر بُوبيان، ذات الموقع الأوسع والأكثر تأثيرًا، بوابةً بحريةً ذات أهميةٍ مضاعفة في أوقات الأزمات والتوازنات الإقليمية، ويُلاحظ أن مسألة خلو الجزر من السكان كانت تُعطي الأرجحية للدولة التي تفرض سيطرتها، والعراق، بحُكم قدراته في تلك المرحلة، كان الأقدر على ذلك.
حتى حين اندلعت أزمة الكويت عام 1990، لم تُهمل القيادة العراقية الملف؛ إنما أحْيَتْه ضمن خطابها الرسمي باعتباره "حقًا مؤجَّلًا"، وأشارت بوضوح إلى أن الجزر لم تكن في أيّ وقتٍ خاضعةً لتنازلٍ أو ترسيمٍ نهائيٍّ صادر عن الشعب أو الدستور العراقي، لكن المجتمع الدولي وبعد الغزو استغل الظرف لتمرير القرار الأممي 833 لسنة 1993، الذي أدرج الجزر ضمن الخارطة الكويتية، متجاهلًا إرثًا تاريخيًّا يمتد لأكثر من قرن، ومتجاوزًا كل أعراف التفاوض المتكافئ.
من زاوية القانون الدولي فإنّ أيَّ ترسيمٍ لا يصدر باتفاقٍ ثنائيٍّ، ويُبنى تحت ظرف الإكراه أو غياب المساواة السيادية، يُعدُّ منقوصًا في المشروعية، وقد أُرغِم العراق على القبول بالقرار الأممي دون أن تتوفّر له أدواتُ الرفض أو المراجعة، نتيجةً لوضعه الدولي آنذاك الذي اتّسم بالعزلة والعقوبات والتلويح باستخدام القوّة، ومع هذا لم يصدر عن أي استفتاء داخليّ أو نقاش برلماني يُضفي الشرعية الدستورية على هذا التنازل المفروض.
إنّ العودة إلى هذا الملف اليوم ليست ترفًا سياسيًا؛ إنّما استجابة لوعيٍ وطنيٍّ يُدرك أن بُوبيان ووربة تمثّلان الجزء المُغَيَّب من السيادة العراقيّة، وأنّ فصلَهُما تم خارج إطار الإرادة الوطنية، من هذا المنطلق، يجب أن تتحوّل المطالبة إلى ركيزةٍ ثابتة في الخطاب السياسي العراقي، وأن تُستعاد حقوق العراق في الجغرافيا البحرية، لا على أساس الصراع، وإنما من باب التصحيح السيادي الذي يحفظ للدولة كرامتها، ويُعيد لها جُغرافيتها الشرعية.
ثانياً: القَرارُ 833: إعادةُ ترسيمٍ قَسْريّ أمْ مُصادَرة مُقَنَّعة للسِّيادة؟
عندَ مُقاربةِ القرارِ الأمميّ رقم (833) الصادرِ عن مجلسِ الأمنِ عام 1993، تتجلّى الحقيقةُ في كونهِ ليس مُجرد وثيقةٍ أُمميّةٍ عابرة، وإنّما مَفصلٌ حاسمٌ في تاريخِ السِّيادةِ العراقيّة، القرارُ فُرِضَ في سياقٍ سياسيٍّ بالغِ القسوة، حين كان العراقُ خاضِعًا لعقوباتٍ دوليّةٍ خانقة، وفَقَدَ حُرّيتهُ التفاوضيّة إثرَ حربِ الخليجِ الثانية، بهذا المعنى لم يكن ترسيمُ الحدودِ الناجمُ عنه نتيجةً لِتفاوُضٍ مُتكافئٍ، وإنما حصيلةُ ظروفٍ قهريةٍ أعادت صياغةَ الجغرافيا السيادية بِمَقصٍّ دولي.
استند القرار إلى توصيات "لجنة ترسيم الحدود" التي أنشأها مجلس الأمن بعد وقف العمليات العسكرية ضد العراق، ورغم توصيفها بالهيئة الفنية فقد أدَّت دورًا سياسيًّا ضمن الإطار العقابيّ الذي طوّق الدولة العراقية، وبنتيجة ذلك أُقرّ ضمُّ جزيرتَي وربة وبوبيان إلى الكويت، وتم إعادة ترسيم خور عبد الله بصورة تُضعِف الهيمنة العراقية عليه، وتُقزّم موقعه البحري التاريخي، هذا التحوّل شكَّل، من الناحية الاستراتيجية، تجريدًا خطيرًا للعراق من منفذهِ البحري الوحيد نحو الخليج العربي.
وفي السياقِ القانونيّ، يُعدّ القرار خرقًا صريحًا لمبدأٍ دوليٍّ أصيل: "عدم جواز التصرّف بأراضي الدول دون رضاها الصريح" فالحدودُ — بحكم القانونِ الدوليِّ — تُرسَمُ عبرَ معاهداتٍ ثنائيةٍ مُتكافئة، لا بقراراتٍ إداريةٍ تنبثق من مراكزِ قوةٍ دولية، والمادة (52) من اتفاقية ڤيينا لقانون المعاهدات (1969) تُشيرُ إلى أنَّ أيّ اتفاقٍ يُبرم تحت التهديد أو الإكراه يُعدّ باطلًا، وبما أن القرار صدر في لحظةٍ كان فيها العراق واقعًا تحت الضغط العسكري والسياسي والاقتصادي، فإنّ شرعيتهُ قابلةٌ للطعنِ من حيث المبدأ والمضمون.
لم تتوقفِ المشكلة عند ذلك الحد فقد جرى لاحقًا توظيف القرار كمرجعيةٍ لتثبيت اتفاقياتٍ ملاحيةٍ تَمسُّ عمق السيادة العراقية، وفي مقدمتها اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبد الله عام 2012، والتي صادق عليها البرلمان العراقي بقانون رقم 42 لسنة 2013، غير أنَّ المحكمةَ الاتحادية العليا أبطلت القانون لاحقًا، لعدم اكتمال النصاب الدستوري اللازم، ما يُشكّل سابقةً قضائيّةً تُقوّض شرعية التنازلات اللاحقة.
وما يُضاعفُ من إشكاليةِ القرار أنه لم يُراعِ موقعَ خور عبد الله الاستراتيجيّ، حيثُ يُمثِّل الشريانَ الملاحيَّ الوحيد الذي تتنفّسُ منهُ التجارةُ العراقيّةُ إلى الخليج، إذ أتاح القرارُ تموضعًا مائيًّا لصالح الكويتِ يمنحها الأفضليةَ في تنظيم الحركة البحرية، مع تقليص مساحة التحكم العراقي، وإنّ مثل هذا الانحراف الجيوسياسيّ لا يمكن قبوله في ظل وجود سوابق دوليّةٍ تؤكد على ضرورةِ احترام التوازنات التفاوضية، لا فرض نتائجٍ في زمن الضُّعف.
كما أنّ المراجعةَ التاريخية تُظهِرُ أنَّ العراق لم يكن طرفًا فاعلًا أو حرًّا في إنتاج ذلك القرار، وإنّ المصادقةَ التي أُنجِزت عليه لاحقًا جاءت في مرحلةٍ انتقالية هشّة، وسط احتلالٍ أجنبيّ وضغوطٍ خارجيةٍ غير مسبوقة، وهي ظروفٌ تُبطلُ منطق القبول التوافقي وتُبرّر الطعن بالقرارِ سياسيًّا ودوليًّا، وإذا أراد العراق اليوم أن يستردّ ملامحَ قراره السياديّ، فعليه أن يُعِدّ ملفًّا قانونيًّا وملاحِيًّا وطنيًّا متكامِلًا، يُوضّحُ فيه كيف فُرِضَ عليه القرار في ظلِّ خللٍ تامٍّ في ميزان القوة، ويُبرز مخالفة ذلك القرار لأصول القانون الدولي، فلا يجوز أن تظلّ هذه الصفحة مفتوحة دون مراجعة، إذ إنّ استمرارية القبول الضمني به تُمثّل خطرًا وجوديًّا على مشروع الدولة البحرية العراقية.
وبذلك فإنّ القرار 833 لا يُمكن التعامل معه كأمر واقعٍ مُقدَّس؛ إنما هو محطة قابلة لإعادة التقييم، على أن يكون ذلك في ضوء المبادئ القانونية الراسخة، والتكافؤ السيادي بين الدول، واستنادًا إلى الإرادة الشعبية والدستورية للعراق، فالتاريخ لا يُكتَب بالأمر الواقع، والسيادة لا تُستعاد بالسكوت.
ثالثاً: خور عبد الله... الشريان المائيّ الذي لا يُفرَّط به
في صُورةِ السِّيادةِ البحريّةِ للعراق يتربّعُ خورُ عبدِ الله على رأسِ أولوياتِ الجغرافيا الاستراتيجية، كونه المَنفذَ المائيَّ الوحيدَ المُوصِل إلى الخليجِ العربي، وليس مجردَ ممرٍّ مائيٍّ بين اليابسة والمحيط، إنما نافذةُ الحياة الاقتصادية التي تُمكِّن العراق من التواصلِ مع الأسواقِ العالميّةِ عبر موانئ الفاو وأم قصر، من هنا فإن أيَّ إضعافٍ للدورِ العراقيّ في هذا الممرّ، أو التهاون في حقّه السياديّ، يُمثّلُ تهديدًا مباشرًا للاقتصاد الوطني والأمن القومي، ويُعادلُ قطعَ الشريان الذي يَمدّ الدولةَ بأُوكسجين التجارة والسيادة.
خور عبد الله من الناحية الجغرافية هو ممرٌّ مائيٌّ طبيعيّ يفصلُ بين شبهِ جزيرةِ الفاو العراقية وجزيرة بوبيان الكويتية ويتّجه جنوبًا نحو الخليج العربي، على ضفّتيه تتوزّع منشآت ومرافئ ذات أهمية بالغة، أبرزها ميناء أم قصر العراقي غربًا، وميناء مبارك الكبير الكويتي شرقًا، هذا التداخل الجغرافيّ لا يجعل الممرّ محايدًا؛ بل يُثبّت حقيقةَ أن العراق، بحُكم الجغرافيا والاستخدام التاريخي، يمتلكُ الحقَّ الأصيلَ في السيطرة عليه، وهو ما كان ساريًا حتى فرض القرار الأممي رقم (833) عام 1993 خرائط جديدة غيّرت من واقع السيطرة، هذا القرار الذي جرى تمريره في سياقٍ دوليٍّ غير طبيعي، ساهمَ في قَصْ جناحِ السيادة العراقية على هذا الممر، من خلال إعادة ترسيمٍ جائرٍ للحدود البحرية، إذ خُصّصَت مساحات من الخور لصالح الجانب الكويتي، أو حوّلت إلى منطقةٍ مشتركة تخضع لتنظيمٍ بحريٍّ يُقلّص من حُرية العراق في استخدام منفذه الطبيعي، لاحقًا جرى تثبيت هذه التعديلات من خلال اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية في خور عبد الله (2012)، التي تمت المصادقة عليها بقانون عراقي (رقم 42 لسنة 2013)، قبل أن تُبطِلها المحكمة الاتحادية العليا لعدم اكتمال النصاب الدستوري.
الاتفاقية بمضامينها التنظيمية حوّلت العراق من طرفٍ سياديٍّ إلى طرفٍ مُقيَّد مُلزَمٍ بالتنسيق المشترك حتى في إجراءات الإبحار والرسوّ والإرشاد البحري، هذا الواقع خلقَ خللًا جوهريًّا في ميزان السيادة، إذ أن الكويت، بحُكم تموضعها الجغرافي، أصبحت تُمسكُ بخيوط السيطرة على الخور، رغم أن اعتمادها الاقتصادي عليه ضئيل مقارنة بالعراق، الذي لا يمتلكُ سواهُ منفذًا على الخليج، والتفاوتُ في الحاجة لا يُقابل بتفاوتٍ في الحقوق، وهذا ما يجعل الاتفاقية غير عادلة، وغير منصفة، وغير قابلة للاستمرار وفقًا لمبدأ التناسب في المعاهدات الدولية.
ومن الناحية القانونية فإنّ الاتفاقية لم تُستكمل شروطها الدستورية، وأُبطِلت بموجب قرار المحكمة الاتحادية العليا، ما يجعلها باطلة من الأساس، والأهم من ذلك أن استمرار العراق في التعامل معها باعتبارها نافذة، يفتح البابَ لتكريسِ خضوعٍ مائيٍّ دائم، ويُقيّد مشروعات سيادية كبرى مثل ميناء الفاو الكبير وطريق التنمية، فالممرّ لم يعد ممرًا حياديًّا؛ بل مساحة نزاعٍ مقنّعٍ تُستثمر فيها نقاط السيطرة لإضعاف القرار العراقي ومنع استقلاليته البحرية.
إنّ الحل لا يكمنُ في تجاهل الملف أو تأجيل معالجته؛ بل في تقديمِ خطابٍ سياديٍّ جديد، مدعومٍ بالخرائط التاريخية والوثائق العثمانية والبريطانية، يؤكد حقوق العراق الملاحية الكاملة في الخور، ويُطالب بإعادة النظر في آليات تنظيم الملاحة التي جرى تثبيتها دون تفويض شعبيّ أو قانوني، كما يُفترض أن يُعاد تقديم هذه القضية في الأمم المتحدة كقضية سيادية محورية، ضمن مشروع مراجعة شامل للترسيم البحري، يستند إلى مبدأ التكافؤ في المفاوضات، ويُراعي حاجة العراق المُلِحّة لمنفذ بحريّ لا يخضع للابتزاز الإقليمي أو لقيود تنظيمية مفروضة.
وما يُعزّز هذا المسار أن العراق لم يعد اليوم في الموقع ذاته الذي كان عليه عند توقيع الاتفاقية، فقد بدأ يستعيد شيئًا فشيئًا من قوته الجيوسياسية، وصار فاعلًا في ملفات الطاقة والنقل الإقليمي، وهذا يمنحه هامشًا سياسيًّا لتعديل المعادلات، فلا يمكن أن تُبنى رؤية الدولة على مشروع طريق تنمية دون تأمين السيادة البحرية، ولا يمكن الحديث عن اقتصاد واعدٍ دون منفذٍ حرٍّ على الخليج.
لذا آن الأوانُ ليتحرّك العراق بملف خور عبد الله، لا كملف قانوني فحسب؛ بل كأحد أعمدة الأمن القومي وأحد الرموز السيادية التي لا يجوز التنازل عنها أو المساومة بشأنها، فالصمت لم يَجلب استقرارًا والسكوت لم يَصنع احترامًا، والمبادرة وحدها هي التي تَستعيد الحق وتُعيد ترتيب الأوراق من موقعٍ قويٍّ لا تابع.
الخاتمة
السيادةُ ليست مجرَّدَ مفهومٍ قانونيٍّ جامد، وإنَّما مشروعٌ وطنيٌّ متكاملٌ تتكامل فيه عناصر التاريخ والجغرافيا والإرادة الشعبيّة. إنَّ قضية الجزر والممرّات لم تكن يومًا شأناً حدوديًّا عابرًا، بل كانت وستبقى أحد أبرز تجلّيات الوعي السياديِّ العراقي، الذي يرفضُ أن تُختَزلَ حقوقُه في اتفاقياتٍ تمَّ تمريرُها في زمنِ الغُبن والضُّعف السياسيّ. وما دام العراقُ يمتلكُ من الإرث الوثائقيِّ، والدعم الشعبيِّ، والمرتكزاتِ الدستوريّة، ما يُؤهِّله لاستعادة قراره الحدوديّ، فإنَّ الصمتَ في هذه اللحظة لا يُمكنُ تبريرُه إلَّا كتنازلٍ غيرِ مُعلَن عن جزءٍ من الكرامة الوطنيّة.
المرحلةُ المقبلةُ تقتضي توجُّهًا واضحًا وموقفًا حازمًا. المطلوبُ ليس تصعيدًا صوتيًّا، ولا شعاراتٍ لا تجدُ طريقها إلى التنفيذ، بل مسارٌ دبلوماسيٌّ وتشريعيٌّ محسوب، يُبنى على مخرجاتِ المحكمةِ الاتحاديّة، ويستندُ إلى الدستور، ويُترجم إلى خطواتٍ رسميّةٍ تبدأ بإلغاء الاتفاقيّة البحريّة نهائيًّا، وتقديمِ ملفٍّ شاملٍ إلى الأممِ المتحدة، يُطالبُ بمراجعةِ الترسيمِ الجائرِ ويدعمُ الموقفَ العراقيَّ بالأدلّةِ التاريخيّةِ والقانونيّة. فلا استقرارَ يتحقّق دون عدالة، ولا عدالةَ تُصان ما لم تُستردّ السيادةُ كاملة، من خور عبد الله إلى وربة وبوبيان.